سورة الأعراف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} أرسلنا {إلى مدين أخاهم شعيبًا}، ومدين: قبيلة من أولاد مدين بن إبراهيم، شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم الخليل، على ما قيل. وقد تقدم في البقرة أن مدين ومدان من ولد إبراهيم عليه السلام، وشعيب هذا يسمى خطيب الأنبياء؛ لحسن مراجعته قومه.
{قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهِ غيره قد جاءتكم بينةٌ من ربكم} يريد المعجزة التي كانت له، وليس في القرآن بيان ما هي معجزته. وحمل الواحدي البينة على الموعظة. وقال في الكشاف: ومن معجزات شعيب: ما رُوِي من محاربة عصا موسى التنين، حين دفع إليه غنمه، وولادة الغنم الدرع خاصة، حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصا آدم في يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات. اهـ. وفيه نظر؛ لأن هذه وقعت بعد مقالته لقومه، وإنما كانت إرهاصات لموسى عليه السلام، وفي حديث البخاري: «مَا بَعَثَ الله نَبِيًّا إلاَّ وآتاهُ مَا مِثلُه آمَنِ عليه البشرُ، وإنما كَان الذي أُوتِيتُه وحيًا، وأرجوُ أن أكون أكَثَرهُم تابعًا يومَ القيامَةِ» وهو صريح في أنه لا بد من الآية لكل رسول، ولعل الله تعالى لم يذكر معجزة شعيب وهود في القرآن مع وجودها؛ لظاهر الحديث.
ثم قال لهم: {فأوفوا الكيلَ والميزانَ}، وكانوا مطففين، أي: فأوفوا المكيال الذي هو آلة الكيل، أي: كبروها؛ بدليل قوله: {والميزان} الذي هو الآلة، ويحتمل أن يريد بهما المصدر، أي الكيل والوزن.
{ولا تَبخسوا الناس أشياءهم} أي: لا تنقصوهم حقوقهم، وإنما قال: {أشياءَهم}، للتعميم تنبيهًا على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير، والقليل والكثير، وقيل: كانوا مكَّاسين لا يدعون شيئًا إلا مكسوه. {ولا تُفسدوا في الأرض} بالكفر والظلم، {بعد إصلاحها} بإقامة الشرائع وظهور العدل، {ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين} أي: ذلك الذي أمرتكم به ونهيتكم عنه هو خير لكم من إبقائكم على ما أنتم عليه، ومعنى الخيرية: الزيادة مطلقًا؛ إذ لا خير فيما هم فيه، أو: في الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال. قاله البيضاوي.
{ولا تقعُدُوا بكل صِراطٍ} أي: طريق {تُوعِدُون} من أراد الإيمان بالعقوبة، وكانوا يجلسون على الطرقات والمراصد، يقولون لمن يريد شعيبًا: إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك؛ ويوعدون من آمن، وقيل: كانوا يقطعون الطريق.
{وتَصُدُّون عن سبيل الله} أي: تصدون الناس عن طريق الله، وهو الإيمان به وبرسوله، وهو الذي قعدوا لأجله في كل طريق، وقوله: {من آمن به}؛ من أراد الإيمان به، أو من آمن حقيقة؛ كانوا يصدونه عن العمل، {وتبغونها عِوَجًا} أي: وتطلبون لطريق الله عوجًا بإلقاء الشُّبَه فيها، أو بوصفها للناس بأنها مُعوَجَّة.
{واذكروا إذ كنتم قليلاً} عَددهم وعُددكم {فكثَّرَكُم} بالبركة في النسل والمال، {وانظروا كيف كان عاقبةِ المفسدين} من الأمم قبلكم، فاعتبروا بهم.
{وإن كانت طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلتُ به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا} أي: تربصوا {حتى يحكم اللهُ بيننا} أي: بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين، {وهو خير الحاكمين}؛ إذ لا معقب لحكمه، ولا حيف فيه.
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه} في جوابه عن وعظه: {لنُخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتُعودنَّ في ملتنا} أي: ليكونن أحد الأمرين؛ إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر، وشعيب عليه السلام لم يكن في ملتهم قط؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر مطلقًا، لكنهم غلّبوا الجماعة على الواحد؛ فخُوطب هو وقومه بخطابهم، وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله: {قال أوَ لو كنا كارهين}. قاله البيضاوي. وقال ابن عطية: وعاد: قد يكون بمعنى صار، فلا يقتضي تقدم ذلك المحال، قلت: ويؤيده ما في حديث الجَهنميين: «قد عادوا حممًا» أي: صاروا.
ثم قال شعيب عليه السلام: {قد افترينا على الله كذبًا إن عُدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها} أي: إن رجعنا إلى مثلكم بعد الخلاص منها، فقد اختلقنا على الله الكذب، وهذا كله في حق قومه كما تقدم. {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربُّنا} خذلاننا وارتدادنا، وفيه تسليم للإدارة المغيبة، والعلم المحيط، فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء. فإن قلت: هو معصوم فلا يصح فيه العود؟ قاله أدبًا مع الربوبية، واستسلامًا لقهر الألوهية، كقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّت قَلبي عَلَى دِينِكَ» {وَسِع ربُّنا كلَّ شيءٍ علمًا} أي: أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم، {على الله توكلنا} في أن يثبتنا على الإيمان، ويخلصنا من الإشراك. {ربنا افتح بيننا} أي: احكم بيننا {وبين قومنا بالحق} بالعدل، بتمييز المحق من المبطل، {وأنت خير الفاتحين} أي الفاصلين.
{وقال الملأُ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتُم شعيبًا} وتركتم دينكم {إنكم إذًا} أي: إذا اتبعتموه {لخاسرون}؛ لاستبدالكم ضلالته بهداكم، أو لفوات ما يحصل لكم من البخس والتطفيف. {فأخذتهم الرجفةُ} أي: الزلزلة. وفي سورة الحجر.
{الصيحة}، ولعلها كانت من مبادئها، {فأصبحوا في دارهم} أي: في مدينتهم {جاثمين} باركين ميتين.
{الذين كذَّبوا شعيبًا كأن لم يَغنَوا فيها} أي: استؤصلوا كأنهم لم يقيموا فيها ساعة. {الذين كذَّبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين} دينًا ودُنيا، بخلاف الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا؛ فإنهم الرابحون، ولأجل التنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول، واستأنف الجملتين وأتى بهما اسميتين.
{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتُكم رسالات ربي ونصحتُ لكم}، قاله بعد هلاكهم، تأسفًا عليهم، ثم أنكر على نفسه فقال: {فكيف آسى على قومٍ كافرين} ليسوا أهلاً للحزن عليهم، لاستحقاقهم ما نزل بهم.
الإشارة: يؤخذ من قوله: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} أن إقامة الشرائع، وظهور الدين من علامة إصلاح الأرض وبهجتها، وخصبها وعافيتها، وترك الشرائع وظهور المعاصي من علامة فساد الأرض وخرابها. ويؤخذ من قوله: {ولا تقعدوا بكل صراط...} الآية، أن حض الناس على الإيمان ودلالتهم على الله من أفضل القربات عند الله، وأعظم الوسائل إلى الله.
ويؤخذ من قوله: {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله} أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية: «يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط» والله تعالى أعلم.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما أرسلنا في قرية من نبي} أي: رسول {إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} أي: بالبؤس والضر، كالقحط والأمراض، {لعلهم يضَّرَّعون} أي: يتضرعون ويتذللون، {ثم بدَّلنا مكانَ} الحالة {السيئةِ} الحالة {الحسنةَ} أي: أعطيناهم، بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة، السلامة والسعة، {حتى عَفَوا}: كثروا عَددًا وعُددًا، يقال: عفا النبات: إذا كثر، ومنه: «اعفُو اللِّحى» {وقالوا قد مسَّ آباءنا الضراءُ والسراءُ}؛ كُفرًا لنعمة الله عليهم، ونسيانًا لذكره، واعتقادًا بأنه من عادة الدهر يتعاقب في الناس بين السراء والضراء، فقد مس آباءنا منه شيء مثل ما مسنا، {فأخذناهم بَغتةً}: فجأة {وهم لا يشعرون} بنزول العذاب.
{ولو أن أهل القرى} المتقدمة في قوله: {وما أرسلنا في قرية من نبي} وقيل: مكة وما حولها. وقيل: مطلقًا، {آمنوا واتقَوا} مكان كفرهم وعصيانهم، {لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض}؛ لوَسعنا عليهم الخير، ويسرناه لهم من كل جانب. وقيل: المراد: المطر والنبات. {ولكن كذبوا} بالرسل، وكفروا النعم، {فأخذناهم بما كانوا يكسبون} من الكفر والمعاصي.
{أفأمِن أهل القرى} أي: أبعد ذلك أمن أهل القرى {أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون}؟ أي: ليلاً، في حال نومهم. {أوَ أمِنَ أهل القرى أن يأتيهم بأسنا} أيضًا {ضُحىً}؛ ضحوة النهار {وهم يلعبون} من فرط الغفلة، أو يشتغلون بما لا ينفعهم، {أفأمِنُوا مكرَ الله} وهو أن يستدرجهم بالنعم حتى يأخذهم بغتة؟ {فلا يأمنُ مكرَ الله إلا القومُ الخاسرون} الذين خسروا أنفسهم، بترك النظر والاعتبار، حتى هلكوا، فلم ينفعهم حينئذٍ الندم.
الإشارة: إظهار المِحَن والمِنَن وتعاقبهما على الإنسان، حكمتها: الرجوع إلى الله، وتضرع العبد إلى مولاه، فمن فعل ذلك كان معتمدًا عليه في الحالتين، مغترفًا من بحر المنة بكلتا اليدين، ومن نزلت به المحن ثم أعقبته لطائف المنن، فلم يرجع إلى مولاه، ولا شكره على ما خوله من نعماه، بل قال: هذه عادة الزمان؛ يتعاقب بالسراء والضراء على الإنسان، فهذا عبد منهمك في غفلته، قد اتسعت دائرة حسه، وانطمست بصيرة قدسه، يصدق عليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ أَضَلُّ أُوْلِئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} [الأعرَاف: 179].
وقال القشيري في قوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا...} الآية: أي: لو آمنوا بالله واتَّقُوا الشرك {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} بأسباب العطاء، فإن سَبَقَ بخلافه القضاء فأبواب الرضا، والرضا أتم من العطاء. ويقال: ليس العبرة بالنعمة؛ العِبرة بالبركة في النعمة. اهـ.
قوله تعالى: {ولكن كذَّبوا} أي: شكُّوا في هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب، والشاك في الصادق المصدوق مكذب. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: للناس أسباب، وسببنا الإيمان والتقوى، ثم تلا هذه الآية: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا...} الآية، وقد تقدم عند قوله: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعَام: 82]. ما يتعلق بالأمن من مكر الله.


قلت: {أن لو نشاء}: {أن} مخففة، وهي وما بعدها: فاعل {يَهدِ} أي: أو لم يتبين لهم قدرتنا على إهلاكهم لو نشاء ذلك؟ وإنما عدى يهدي باللام؛ لأنه بمعنى يتبين، و{نطبع}: استئناف، أي: ونحن نطبع على قلوبهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أوَ لم يهدِ} أي: يتبين {للذين يرثون الأرضَ من بعد أهلها} أي: يخلفون من قبلهم ويرثون ديارهم وأموالهم، {أن لو نشاء أصبناهم} أي: أهلكناهم {بذنوبهم} بسبب ذنوبهم، كم أهلكنا من قبلهم، لكن أمهلناهم ولم نهملهم، {و} نحن {نَطبَعُ على قلوبهم} بالغفلة والانهماك في العصيان، {فهم لا يسمعون} سماع تدبر واعتبار.
{تلك القرى}، التي قصصنا عليك آنفًا، {نقصّ عليك من أنبائها} من أخبارها، أي: بعض أخبارها، ولها أبناء غيرها لا نقصها عليك {ولقد جاءتهم رسُلهم بالبينات}: بالمعجزات، {فما كانوا ليؤمنوا} عند مجيئهم، بها {بما كذَّبوا من قبل} مجيئها، يعني: أن ظهور المعجزات لم ينفعهم، بل الشي الذي كذبوا به قبل مجيئها، وهو التوحيد وتصديق الرسل؛ استمروا عليه بعد مجيئها.
أو: {فما كانوا ليؤمنوا} مدة عمرهم بما كذبوا به أولاً، حيث جاءتهم الرسل، فلم تؤثر فيهم دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة. {كذلك يطبعُ الله على قلوب الكافرين} فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر.
{وما وجدنا لأكثرهم} أي: لأكثر أهل القرى {من عهدٍ}، بل جُلُّهم نقصوا ما عَهدناهم عليه من الإيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج، {وإن وجدنا أكثرَهم} أي: علمناهم {لفاسقين}، وإن مخففة، واللام: فارقة.
الإشارة: ينبغي لمن فتح الله بصيرته أن ينظر بعين الاعتبار فيمن سلف قبله، كيف تركوا الدنيا ورحلوا عنها، ولم يأخذوا منها إلا ما قدموا أمامهم؟ قَدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفعهم الندم وقد زلت بهم القدم، فالدهر خطيب يُسمع القاصي والقريب، وهو ينادي بلسان فصيح، عادلاً عن الكتابة إلى التصريح، قائلاً: أمَا حَصلَ لكم الإنذار؟ أما كفاكم ما تشاهدون في الاعتبار؟ أين من سلف قبلكم؟. أوَ ما كانوا أشد منكم أو مثلكم؟ قد نما ذكرهم وعلا قدرهم، وخسف بعد الكمال بدرهم، فكأنهم ما كانوا، وعن قريب مضوا وبانوا، أفضوا إلى ما قدموا، وانقادوا قهرًا إلى القضاء وسلموا، في أيها الغافلون، أنتم بمن مضى لاحقون، ويا أيها الباقون؛ أنتم إليهم تساقون، قَضاءٌ مبرم، وحُكمٌ ملزم، ليس عند محيد لأحد من العبيد.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13